• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الديمقراطية الرقمية المعاونة في العراق

د. علاء إبراهيم الحسيني

الديمقراطية الرقمية المعاونة في العراق

 لما كانت الديمقراطية تعني حكم الشعب ومساهمته في الأمور العامة بوصفه المالك الشرعي للسلطة، فإنّ صور هذه المساهمة قد تباينت فتارة تكون كبيرة جداً حينما ينحصر اتخاذ القرارات العامة بيد الشعب وهو ما يعرف بالديمقراطية المباشرة، وتارة ينتخب الشعب ممثلين عنه مع احتفاظه بحقّ المساهمة المباشرة بإدارة الدولة عبر الاقتراح الشعبي والاستفتاء الشعبي والاعتراض الشعبي، وهذا التطبيق يعرف بالديمقراطية شبه المباشرة، والصورة الأخيرة للديمقراطية التي تُدعى بالتمثيلية وفيها يقتصر دور الشعب باختيار ممثلين لمدة محددة ليمارسوا السلطة بالنيابة عنه.

 والديمقراطية الرقمية أو السيبرانية كما يسميها بعض المختصين هي إحدى صور الديمقراطية شبه المباشرة وتعني إمكانية استعمال الوسائل والتقنيات التكنولوجية الخاصة بالاتصالات المتطورة في ممارسة الأفراد لحقوقهم السياسية، أو لزيادة مساهمتهم بالشؤون العامة بعيداً عن البيروقراطية والتكاليف الباهظة التي تتطلبها الممارسات الديمقراطية التقليدية من تنظيم الاستفتاءات والانتخابات وما يرافق الاقتراح الشعبي من عقبات فنية أو لوجستية إن تمت ممارسته بالطريقة التقليدية بعيداً عن استعمال الوسائل التقنية الحديثة.

 وتعرف الديمقراطية المعاونة بأنّها تعاون الهيئات العامة (وبالتحديد السلطتين التشريعية والتنفيذية) مع الهيئات والفعاليات الشعبية والمجتمعية في إدارة شؤون البلاد، إذ تشترك الأحزاب السياسية والمنظمات غير الحكومية والمواطنين في وضع وصياغة القواعد القانونية ورسم السياسات العامة عبر تطبيق إلكتروني تفاعلي، أو شبكة اجتماعية حكومية تمكن جميع المواطنين ممن يملكون الحقّ في الانتخاب وممارسة الحقوق السياسية من إبداء الآراء والمقترحات والتصويت الإلكتروني بقبول أو رفض بعض المشاريع والمقترحات الخاصة بالقوانين والقرارات المعروضة على البرلمان والحكومة، ويكونوا بذلك طرف فاعل في صناعة السياسة التشريعية والعامة، وبهذا يمكن مساهمة الأفراد بالشأن العام بشكل سلس ومجاني.

 بعبارة أخرى سيتعاون الناخبون والمنتخبون للوصول إلى أفضل الحلول لأي موقف، وهو الأمر الذي من شأنه أن يرفع من وعي الناخب السياسي ويكسب قرارات الهيئات العامة مزيداً من المشروعية باستنادها إلى إرادة شعبية حقيقية فاعلة ومؤثرة، كما أنّ هذا الأسلوب الديمقراطي يمكن الشعب من الاعتراض على كلّ المشاريع التي لا تتفق مع مصالحه ويكون للأحزاب والمنظمات غير الحكومية الدور البارز في شرح مضامين تلك الأعمال وآثارها للشعب عبر الصحافة والإعلام ليقوم الأفراد بالتصويت لصالحها أو ضدها، وبهذا تكون درجة استجابة الأفراد للقرارات والقوانين وإطاعتها أكبر لكونهم أسهموا في صياغتها كما يكونوا أكثر تفاعلاً مع السياسات العامة التي تتسم بالعدالة والاستدامة.

 إذن ما نبحثه من سُبل رقمية ليس نوعاً جديداً لنظام ديمقراطي بل هي تطور للديمقراطية شبه المباشرة، وتوظيف للأدوات التقنية الحديثة في ممارسة الشعب للسلطة بشكل غير مباشر ما يعني أن الديمقراطية الرقمية المعاونة هي مجرد آليات عمل بعيدة عن القيم الفكرية للمبدأ الديمقراطي ومدى فاعليتها غير مثبتة بشكل متساوي إذ هي الأخرى بحاجة إلى وعيّ وإرادة حقيقية من قبل القابضين على السلطة والأفراد، وهي بحاجة إلى تفاعل حقيقي من قبل أصحاب القرار السياسي والاقتصادي والثقافي...

أي إنّ الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والمثقفين ينبغي أن يكونوا هم في طليعة المطالبين بها والمتبنين لنتائجها، كما وأنّ الاستعانة بالأدوات التقنية بحاجة إلى قاعدة أو نظام ديمقراطي راسخ ليجد تطبيقاً سليماً عبر الاستعانة بالبريد الإلكتروني والرسائل القصيرة والمواقع التفاعلية وغيرها من الأدوات الرقمية، وللوصول إلى ما تقدم يتطلب كمرحلة أولى تأسيس شبكة اجتماعية يكون المواطنين المسجلين في سجل الناخبين أعضاء فيها ويتاح لأي منهم عرض طلباته ومشكلاته بشكل مباشر على المسؤول ليتم إنجاز معاملاته بشكل أسرع، وهو ما متوافر اليوم على موقع مجلس الوزراء العراقي وأغلب الوزارات العراقية تحت مسمى الحكومة الإلكترونية بيد أنّه يحتاج إلى مزيد من التطوير وجعله موقع تفاعلي، على أن يمكن هؤلاء الأفراد من الاشتراك بشكل أكبر في اتخاذ القرارات الفاصلة المتعلقة بتفاصيل حياتهم اليومية وممارستهم للحقوق والحريات العامة والخاصة الفردية منها والجماعية.

 ولعل مَن يشكل علينا بأنّ الدستور العراقي تبنى في المادة الأولى وما تلاها نظام الديمقراطية التمثيلية فنجيب أنّ الدستور تبنّى إلى جانب النظام التمثيلي نظام الديمقراطية شبه المباشرة بدليل أنّ تعديل وثيقة الدستور وفق المادة (126) لا يتم إلّا بعد موافقة الشعب بالاستفتاء العام والأخير واحداً من أدوات الديمقراطية شبه المباشرة، كما أنّ المادة (119) من الدستور تبنّت الاستفتاء أيضاً وصدر قانون الإجراءات التنفيذية لتشكيل الأقاليم رقم (13) لسنة 2008 تنفيذاً لها إذ اشترط إجراء استفتاء لتشكيل الإقليم بل أنّه تبنّى آلية الاقتراح الشعبي لتشكيل الإقليم وفق ما نصت عليه المادة (2) من القانون.

ويمكن للديمقراطية الرقمية المعاونة أن تأخذ عدة تطبيقات من شأنها أن تزيد من مساهمة الشعب في اتخاذ القرار العام نجملها بالآتي:

أوّلاً// البرلمان الرقمي: في معرض بياننا للديمقراطية الرقمية المعاونة ووسيلة البرلمان الرقمي نتساءل هل يمكن أن يصار إلى التصويت بالوكالة؟ أم إنّ هذا النوع من الديمقراطية مماثل للديمقراطية المباشرة ويتطلب ممارسة هذا الحقّ من الشخص ذاته؟، حقيقة أنّ التصويت على كلّ مسألة لربما يلقي عبء على المواطن، والحل الذي يمكن أن يتم تبنّيه ويعزز ثقة الشعب بالمؤسسات العامة وبقراراتها هو السماح بانتخاب جمعية أو مجلس أو لجنة من قبل أفراد الشعب ممَن ينالون ثقته ويكونوا من ذوي الاختصاص والخبرة للتصويت نيابة إلكترونياً وهو ما يمكن أن نسميه (البرلمان الإلكتروني) مع ضرورة أن يحتفظ الأفراد بالتصويت متى رغبوا في المسائل الفاصلة أو المتعلقة بالمصالح العليا للدولة أو تلك التي تطال حقوق الشعب وحرياته الأساسية أو المتعلقة بتشكيل المؤسسات العامة كالحكومة والبرلمان.

ثانياً// الاقتراح الرقمي: إذ يتم تشجيع كلّ المواطنين ولاسيما أصحاب بعض الاختصاصات التي يتصل بها موضوع الاقتراح على تقديم رؤية وحلول لمشكلة معينة، أو لتنظيم أمر محدد ثم يتولى جهاز الكومبيوتر إعداد استفتاء على المقترح ليقدم إلى المؤسسات العامة بعد ذلك إن نال رضا الأفراد وقناعتهم، بشرط أن يمر بمرحلة تقييم لاستكمال النقص وإزالة الغموض واكتشاف نقاط الضعف وصياغته بالشكل النهائي من قبل المختصين في مجلس الدولة العراقي أو يقدم إلى لجنة خبراء مستقلين من منظمات المجتمع المدني لتتولى الصياغة النهائية عبر ما يمكن أن نسميه برلمان المجتمع المدني المكوّن من ممثلين عن المنظمات غير الهادفة إلى الوصول إلى السلطة أو الربح.

ثالثاً// الاستفتاء الرقمي: إذ يتم أحياناً إعداد مشروع قانون أو قرار متعلق بالسياسة العامة للدولة ويحظى باهتمام عام فمن الممكن أخذ رأي الشعب إلكترونياً بيُسر وسهولة ودون تكلفة كبيرة كما في الاستفتاءات العادية التي تتطلب جيش من الموظفين وتعطيل لمؤسسات الدولة ونفقات باهظة، إذ يُتاح الأمر للتصويت الشعبي عبر التطبيقات الاجتماعية التفاعلية لمدة شهر أو أكثر بما لا يؤثر على سير المرافق العامة ولا على أشغال الناس، وبما يكفل ديمقراطية العمل محل التصويت ومساهمة الناس في اتخاذه.

رابعاً// البرامج الحزبية الرقمية: إذ يمكن للأحزاب أن تتبنّى هذا النمط من الديمقراطية على مستوى برامجها وفعالياتها الداخلية، حيث يتم استفتاء جمهور الحزب إلكترونياً على المسائل المهمّة التي يتصدى لها الحزب، ويُشارك الجمهور في رسم السياسة العامة للحزب وتتحدد مواقفه من القضايا المصيرية بمشاركة الجمهور المؤيد أو المنتمي لهذا الحزب وبذا يمكن القضاء على آفة الاستبداد في نفوس قادة الأحزاب ومنع نموها بأي شكل من الأشكال.

خامساً// النزاهة الرقمية: وتتمثّل بقيام هيأة النزاهة وديوان الرقابة المالية بنشر الوثائق المتعلقة بكشف الذمة المالية لكبار قادة الدولة، وفضح صفقات الفساد والمفسدين، ما يجعل من الشعب شريكاً في محاربة الفساد، كما يمكن نشر الذمة المالية لكبار موظفي الدولة قبل وبعد تسنم المنصب إضافة إلى الرواتب التي يتلقاها كلّ منهم الرأي العام من فهم معادلات الفساد المعلن والمخفي تحت طائلة بعض القوانين والقرارات التي تخص هذه الفئات.

سادساً// بوابات الشكاوى: وهي اليوم مفعلة إلى حد ما في أروقة الحكومة العراقية ومختلف الوزارات والهيئات فهنالك أرقام تبثّها هيأة الإعلام والاتصالات بين الحين والآخر لتسجيل الشكاوى ضد شركات الاتصالات إضافة إلى وجود بوابات في مواقع الوزارات لتلقي شكاوى المواطنين إلّا أنّها بحاجة إلى التفاعل من المسؤولين وإلى سرعة الاستجابة.

سابعاً// المجتمع المدني الرقمي: وهذا المفهوم قابل للتطبيق على مستويات مختلفة من بينها على سبيل المثال العمل النقابي الرقمي المتمثل بالتواصل بين النقابة ومجلس إدارتها وبين العاملين في مهنة أو حرفة والمنتمين للنقابة للتفاعل بكلّ ما يهم أصحاب هذه الأعمال، وكذا الأمر بالنسبة للجمعيات بمختلف مسمياتها واتجاهاتها والأمر يتصل بالمنظمات غير الحكومية المختلفة كتلك الراعية لحقوق الناس أو المطالبة بترشيد الحكم وآلياته وغيرها كثير.

ثامناً// الحملات الانتخابية الرقمية: التي يمكن أن يلزم بها جميع المرشحين بمنع الملصقات والبوسترات التي من شأنها أن تشوه الشوارع والبنايات والمعالم الرئيسية في المدن وتتسبب بتراكم النفايات إضافة إلى تكاليفها الباهظة التي يمكن أن تستثمر في ميادين النفع العام بدل استغلال النفوذ لتعليقها بشكل عشوائي، ويحقق هذا التطبيق إضافة إلى ما تقدم العدالة والمساواة بين المرشحين والمعاونة للسلطات المختصة بتنظيم الانتخابات أو مراقبتها.

تاسعاً// التظاهر والاحتجاج الرقمي: إذ يمكن لمجموعة من الأفراد ممن يحملون مطالب معينة وتجمعهم أهداف مشتركة أن يقوموا بالترويج لمطالبهم ليحققوا التفاف الرأي العام حولها فيكون ذلك أجدى وأبلغ في التعبير عنها وإيصالها إلى المسؤول وإلزامه بتلبيتها، وتتحقق المعاونة في هذا التطبيق في إبلاغ السلطات المختصة المسؤولة عن الأمن أو منح إجازة التجمع والتظاهر.

 مما تقدم نوصي المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق والحكومة العراقية بضرورة الالتفات إلى التصويت الإلكتروني وتبنيه في الاستحقاقات الانتخابية القادمة لاسيما وإنّ المفوضية قطعت شوطاً لا بأس به في مشروع بطاقة الناخب الإلكترونية التي تحوي معلومات الناخب كاملة ولا يعوزها إلّا الجرأة في استخدام الأجهزة الخاصة بالتصويت الإلكتروني التي تعرض نتائج التصويت بشكل فوري بمجرد انتهاء الانتخابات وتحول دون تزوير النتائج أو إثارة الشبهات بهذا الخصوص على الأقل بسبب أنّ العمل الرقمي سيحد من التدخل البشري والأخطاء المقصودة أو غير المقصودة، كما إنّها تختصر الوقت والجهد والمال فلا حاجة لعدد هائل من الموظفين في يوم الاقتراع ويمكن لمراقبي نزاهة الانتخاب أن يسايروا صحّة الإجراءات وسلامة ونزاهة العملية بكاملها بيُسر وسهولة، وحتى بالنسبة لتصويت العراقيين في الخارج يمكن ربط السفارات العراقية بمنظومة إلكترونية مع مقر مفوضية الانتخابات ما يحول دون التعقيد أو الإجراءات المطولة التي يضطر الناخب بسببها إلى الوقوف لساعات في أبواب المركز الانتخابي، ما يتسبب في عزوف البعض من الناس عن ممارسة حقّهم السياسي في التعبير عن خياراتهم، ويحقق البرنامج الإلكتروني فائدة إحصائية حيث يمكن منظمات المجتمع المدني والأحزاب من معرفة حجم المشاركة الحقيقية في الانتخابات ويمكن لمفوضية الانتخابات أن تعرف حجم مشاركة بعض الفئات كالنساء والشباب.

ارسال التعليق

Top